سورة النساء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)}
اعلم أنه تعالى قال: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} [النساء: 32] وقد ذكرنا أن سبب نزول هذه الآية أن النساء تكلمن في تفضيل الله الرجال عليهن في الميراث، فذكر تعالى في هذه الآية أنه إنما فضل الرجال على النساء في الميراث، لأن الرجال قوامون على النساء، فإنهما وإن اشتركا في استمتاع كل واحد منهما بالآخر، أمر الله الرجال أن يدفعوا إليهن المهر، ويدروا عليهن النفقة فصارت الزيادة من أحد الجانبين مقابلة بالزيادة من الجانب الآخر، فكأنه لا فضل ألبتة، فهذا هو بيان كيفية النظم. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: القوام؛ اسم لمن يكون مبالغا في القيام بالأمر، يقال: هذا قيم المرأة وقوامها للذي يقوم بأمرها ويهتم بحفظها.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في بنت محمد بن سلمة وزوجها سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار، فإنه لطمها لطمة فنشزت عن فراشه وذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وذكرت هذه الشكاية، وأنه لطمها وأن أثر اللطمة باق في وجهها، فقال عليه الصلاة والسلام: «اقتصي منه» ثم قال لها: «اصبري حتى أنظر» فنزلت هذه الآية: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} أي مسلطون على أدبهن والأخذ فوق أيديهن، فكأنه تعالى جعله أميرا عليها ونافذ الحكم في حقها، فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أردنا أمراً وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير» ورفع القصاص، ثم انه تعالى لما أثبت للرجال سلطنة على النساء ونفاذ أمر عليهن بين أن ذلك معلل بأمرين، أحدهما: قوله تعالى: {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [النساء: 34].
واعلم أن فضل الرجل على النساء حاصل من وجوه كثيرة، بعضها صفات حقيقية، وبعضها أحكام شرعية، أما الصفات الحقيقية فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها الى أمرين: إلى العلم، وإلى القدرة، ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر، ولا شك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل، فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء في العقل والحزم والقوة، والكتابة في الغالب والفروسية والرمي، وأن منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى والجهاد والأذان والخطبة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق، وفي الأنكحة عند الشافعي رضي الله عنه، وزيادة النصيب في الميراث والتعصيب في الميراث، وفي تحمل الدية في القتل والخطأ، وفي القسامة والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج، وإليهم الانتساب، فكل ذلك يدل على فضل الرجال على النساء.
والسبب الثاني: لحصول هذه الفضيلة: قوله تعالى: {وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أموالهم} يعني الرجل أفضل من المرأة لأنه يعطيها المهر وينفق عليها، ثم إنه تعالى قسم النساء قسمين، فوصف الصالحات منهن بأنهن قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: قرأ ابن مسعود (فالصالحات قوانت حوافظ للغيب).
المسألة الثانية: قوله: {قانتات حفظات لّلْغَيْبِ} فيه وجهان:
الأول: قانتات، أي مطيعات لله، {حفظات لّلْغَيْبِ} أي قائمات بحقوق الزوج، وقدم قضاء حق الله ثم أتبع ذلك بقضاء حق الزوج.
الثاني: أن حال المرأة إما أن يعتبر عند حضور الزوج أو عند غيبته، أما حالها عند حضور الزوج فقد وصفها الله بأنها قانتة، وأصل القنوت دوام الطاعة، فالمعنى أنهن قيمات بحقوق أزواجهن، وظاهر هذا إخبار، إلا أن المراد منه الأمر بالطاعة.
واعلم أن المرأة لا تكون صالحة إلا إذا كانت مطيعة لزوجها، لأن الله تعالى قال: {فالصالحات قانتات} والألف واللام في الجمع يفيد الاستغراق، فهذا يقتضي أن كل امرأة تكون صالحة، فهي لابد وأن تكون قانتة مطيعة.
قال الواحدي رحمه الله: لفظ القنوت يفيد الطاعة، وهو عام في طاعة الله وطاعة الأزواج، وأما حال المرأة عند غيبة الزوج فقد وصفها الله تعالى بقوله: {حفظات لّلْغَيْبِ} واعلم أن الغيب خلاف الشهادة، والمعنى كونهن حافظات بمواجب الغيب، وذلك من وجوه:
أحدها: أنها تحفظ نفسها عن الزنا لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها، ولئلا يلتحق به الولد المتكون من نطفة غيره.
وثانيها: حفظ ماله عن الضياع.
وثالثها: حفظ منزله عما لا ينبغي، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «خير النساء إن نظرت اليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها» وتلا هذه الآية.
المسألة الثالثة: ما في قوله: {بِمَا حَفِظَ الله} فيه وجهان:
الأول: بمعنى الذي، والعائد اليه محذوف، والتقدير: بما حفظه الله لهن، والمعنى أن عليهن ان يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن، حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن، فقوله: {بِمَا حَفِظَ الله} يجري مجرى ما يقال: هذا بذاك، أي هذا في مقابلة ذاك.
والوجه الثاني: أن تكون ما مصدرية، والتقدير: بحفظ الله، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان:
الأول: أنهن حافظات للغيب بما حفظ الله إياهن، أي لا يتيسر لهن حفظ إلا بتوفيق الله، فيكون هذا من باب إضافة المصدر إلى الفاعل.
والثاني: أن المعنى: هو أن المرأة إنما تكون حافظة للغيب بسبب حفظهن الله أي بسبب حفظهن حدود الله وأوامره، فإن المرأة لولا أنها تحاول رعاية تكاليف الله وتجتهد في حفظ أوامره لما أطاعت زوجها، وهذا الوجه يكون من باب إضافة المصدر إلى المفعول.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الصالحات ذكر بعده غير الصالحات، فقال: {واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ}.
واعلم أن الخوف عبارة عن حال يحصل في القلب عند ظن حدوث أمر مكروه في المستقبل.
قال الشافعي رضي الله عنه: {واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} النشوز قد يكون قولا، وقد يكون فعلا، فالقول مثل أن كانت تلبيه إذا دعاها، وتخضع له بالقول إذا خاطبها ثم تغيرت، والفعل مثل أن كانت تقوم اليه إذا دخل عليها، أو كانت تسارع إلى أمره وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها، ثم إنها تغيرت عن كل ذلك، فهذه أمارات دالة على نشوزها وعصيانها، فحينئذ ظن نشوزها ومقدمات هذه الأحوال توجب خوف النشوز.
وأما النشوز فهو معصية الزوج والترفع عليه بالخلاف، وأصله من قولهم نشز الشيء إذا ارتفع، ومنه يقال للأرض المرتفعة: ونشز ونشر.
ثم قال تعالى: {فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الشافعي رضي الله عنه: أما الوعظ فإنه يقول لها: اتقي الله فإن لي عليك حقا وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو هذا، ولا يضربها في هذه الحالة لجواز أن يكون لها في ذلك كفاية، فإن أصرت على ذلك النشوز فعند ذلك يهجرها في المضجع وفي ضمنه امتناعه من كلامها، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: ولا يزيد في هجره الكلام ثلاثا، وأيضا فإذا هجرها في المضجع فإن كانت تحب الزوج شق ذلك عليها فتترك النشوز، وإن كانت تبغضه وافقها ذلك الهجران، فكان ذلك دليلا على كمال نشوزها، وفيهم من حمل ذلك على الهجران في المباشرة، لأن إضافة ذلك إلى المضاجع يفيد ذلك، ثم عند هذه الهجرة إن بقيت على النشوز ضربها.
قال الشافعي رضي الله عنه: والضرب مباح وتركه أفضل.
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: كنا معاشر قريش تملك رجالنا نساءهم، فقدمنا المدينة فوجدنا نساءهم تملك رجالهم، فاختلطت نساؤنا بنسائهم فذئرن على أزواجهن، فأذن في ضربهن فطاف بحجر نساء النبي صلى الله عليه وسلم جمع من النسوان كلهن يشكون أزواجهن، فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد أطاف الليلة بآل محمد سبعون امرأة كلهن يشكون أزواجهن ولا تجدون أولئك خياركم». ومعناه أن الذين ضربوا أزواجهم ليسوا خيرا ممن لم يضربوا.
قال الشافعي رضي الله عنه: فدل هذا الحديث على أن الأولى ترك الضرب، فأما إذا ضربها وجب في ذلك الضرب أن يكون بحيث لا يكون مفضيا إلى الهلاك ألبتة، بأن يكون مفرقا على بدنها، ولا يوالي بها في موضع واحد ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن، وأن يكون دون الأربعين. ومن أصحابنا من قال: لا يبلغ به عشرين لأنه حد كامل في حق العبد، ومنهم من قال: ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف أو بيده، ولا يضربها بالسياط ولا بالعصا، وبالجملة فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه.
وأقول: الذي يدل عليه أنه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع، ثم ترقى منه إلى الضرب، وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الاخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشق والله أعلم.
المسألة الثانية: اختلف أصحابنا قال بعضهم: حكم هذه الآية مشروع على الترتيب، فان ظاهر اللفظ وإن دل على الجمع إلا أن فحوى الآية يدل على الترتيب، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: يعظها بلسانه، فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها، فإن أبت ضربها، فان لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين.
وقال بعض أصحابنا: تحرير المذهب أن له عند خوف النشوز أن يعظها، وهل له أن يهجرها؟ فيه احتمال، وله عند إبداء النشوز أن يعظها أو يهجرها، أو يضربها.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} أي إذا رجعن عن النشوز إلى الطاعة عند هذا التأديب {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي لا تطلبوا عليهن الضرب والهجران طريقاً على سبيل التعنت والايذاء {إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} وعلوه لا بعلو الجهة، وكبره لا بكبر الجثة، بل هو علي كبير لكمال قدرته ونفاذ مشيئته في كل الممكنات. وذكر هاتين الصفتين في هذا الموضع في غاية الحسن، وبيانه من وجوه:
الأول: أن المقصود منه تهديد الأزواج على ظلم النسوان، والمعنى أنهن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم، فالله سبحانه علي قاهر كبير قادر ينتصف لهن منكم ويستوفي حقهن منكم، فلا ينبغي أن تغتروا بكونكم أعلى يداً منهن، وأكبر درجة منهن.
الثاني: لا تبغوا عليهن إذا أطعنكم لعلو أيديكم. فإن الله أعلى منكم وأكبر من كل شيء، وهو متعال عن أن يكلف إلا بالحق.
الثالث: أنه تعالى مع علوه وكبريائه لا يكلفكم إلا ما تطيقون، فكذلك لا تكلفوهن محبتكم، فإنهن لا يقدرن على ذلك.
الرابع: أنه مع علوه وكبرئايه لا يؤاخذ العاصي إذا تاب، بل يغفر له، فإذا تابت المرأة عن نشوزها فأنتم أولى بأن تقبلوا توبتها وتتركوا معاقبتها.
الخامس: أنه تعالى مع علوه وكبرئايه اكتفى من العبد بالظواهر، ولم يهتك السرائر، فأنتم أولى أن تكتفوا بظاهر حال المرأة، وأن لا تقعوا في التفتيش عما في قلبها وضميرها من الحب والبغض.


{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر عند نشوز المرأة أن الزوج يعظها، ثم يهجرها، ثم يضربها، بين أنه لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم فقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} إلى آخر الآية وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: {خِفْتُمْ} أي علمتم. قال: وهذا بخلاف قوله: {واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} فإن ذلك محمول على الظن، والفرق بين الموضعين أن في الابتداء يظهر له أمارات النشوز فعند ذلك يحصل الخوف وأما بعد الوعظ والهجر والضرب لما أصرت على النشوز، فقد حصل العلم بكونها ناشزة: فوجب حمل الخوف هاهنا على العلم. طعن الزجاج فيه فقال: {خِفْتُمْ} هاهنا بمعنى أيقنتم خطأ، فإنا لو علمنا الشقاق على الحقيقة لم نحتج إلى الحكمين.
وأجاب سائر المفسرين بأن وجود الشقاق وإن كان معلوما، الا أنا لا نعلم أن ذلك الشقاق صدر عن هذا أو عن ذاك، فالحاجة إلى الحكمين لمعرفة هذا المعنى. ويمكن أن يقال: وجود الشقاق في الحال معلوم، ومثل هذا لا يحصل منه خوف، إنما الخوف في أنه هل يبقى ذلك الشقاق أم لا؟ فالفائدة في بعث الحكمين ليست إزالة الشقاق الثابت في الحال فإن ذلك محال، بل الفائدة إزالة ذلك الشقاق في المستقبل.
المسألة الثانية: للشقاق تأويلان: أحدهما: أن كل واحد منهما يفعل ما يشق على صاحبه.
الثاني: أن كل واحد منهما صار في شق بالعداوة والمباينة.
المسألة الثالثة: قوله: {شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} معناه: شقاقا بينهما، إلا أنه أضيف المصدر إلى الظرف وإضافة المصادر إلى الظروف جائزة لحصولها فيها، يقال: يعجبني صوم يوم عرفة، وقال تعالى: {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} [سبأ: 33].
المسألة الرابعة: المخاطب بقوله: {فابعثوا حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ} من هو؟ فيه خلاف: قال بعضهم إنه هو الامام أو من يلي من قبله، وذلك لأن تنفيذ الأحكام الشرعية اليه، وقال آخرون: المراد كل واحد من صالحي الأمة وذلك لأن قوله: {خِفْتُمْ} خطاب للجميع وليس حمله على البعض أولى من حمله على البقية، فوجب حمله على الكل، فعلى هذا يجب أن يكون قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} خطابا لجميع المؤمنين. ثم قال: {فابعثوا} فوجب أن يكون هذا أمراً لآحاد الأمة بهذا المعنى، فثبت أنه سواء وجد الامام أو لم يوجد، فللصالحين أن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها للاصلاح. وأيضا فهذا يجري مجرى دفع الضرر، ولكل أحد أن يقوم به.
المسألة الخامسة: إذا وقع الشقاق بينهما، فذاك الشقاق إما أن يكون منهما أو منه أو منها، أو يشكل، فان كان منها فهو النشوز وقد ذكرنا حكمه، وان كان منه، فإن كان قد فعل فعلا حلالا مثل التزوج بامرأة أخرى، أو تسرى بجارية، عرفت المرأة أن ذلك مباح ونهيت عن الشقاق، فان قبلت وإلا كان نشوزا، وإن كان بظلم من جهته أمره الحاكم بالواجب، وإن كان منهما أو كان الأمر متشابها، فالقول أيضاً ما قلناه.
المسألة السادسة: قال الشافعي رضي الله عنه: المستحب أن يبعث الحاكم عدلين ويجعلهما حكمين، والأولى أن يكون واحد من أهله وواحد من أهلها، لأن أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب، وأشد طلباً للصلاح، فان كانا أجنبيين جاز. وفائدة الحكمين أن يخلو كل واحد منهما بصاحبه ويستكشف حقيقة الحال، ليعرف أن رغبته في الإقامة على النكاح، أو في المفارقة، ثم يجتمع الحكمان فيفعلان ما هو الصواب من إيقاع طلاق أو خلع.
المسألة السابعة: هل يجوز للحكمين تنفيذ أمر يلزم الزوجين بدون إذنهما، مثل أن يطلق حكم الرجل، أو يفتدى حكم المرأة بشيء من مالها؟ للشافعي فيه قولان:
أحدهما: يجوز، وبه قال مالك واسحق.
والثاني: لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة. وعلى هذا هو وكالة كسائر الوكالات وذكر الشافعي رضي الله عنه حديث علي رضي الله عنه، وهو ما روى ابن سيرين عن عبيدة أنه قال جاء رجل وامرأة إلى علي رضي الله عنه، ومع كل واحد منهما جمع من الناس، فأمرهم علي بأن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، ثم قال للحكمين: تعرفان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله تعالى فيما علي ولي فيه. فقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي: كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به.
قال الشافعي رضي الله عنه: وفي هذا الحديث لكل واحد من القولين دليل.
أما دليل القول الأول فهو أنه بعث من غير رضا الزوجين وقال: عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا، وأقل ما في قوله: عليكما، أن يجوز لهما ذلك.
وأما دليل القول الثاني: أن الزوج لما لم يرض توقف على، ومعنى قوله: كذبت، أي لست بمنصف في دعواك حيث لم تفعل ما فعلت هي. ومن الناس من احتج للقول الأول بأنه تعالى سماهما حكمين. والحكم هو الحاكم وإذا جعله حاكما فقد مكنه من الحكم، ومنهم من احتج للقول الثاني بأنه تعالى لما ذكر الحكمين، لم يضف إليهما إلا الإصلاح، وهذا يقتضي أن يكون ما وراء الاصلاح غير مفوض اليهما.
المسألة الثامنة: قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} أي شقاقا بين الزوجين، ثم إنه وإن لم يجر ذكرهما إلا أنه جرى ذكر ما يدل عليهما، وهو الرجال والنساء.
ثم قال تعالى: {إِن يُرِيدَا إصلاحا يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في قوله: {إِن يُرِيدَا} وجوه:
الأول: إن يرد الحكمان خيرا وإصلاحا يوفق الله بين الحكمين حتى يتفقا على ما هو خير.
الثاني: إن يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين.
الثالث: إن يرد الزوجان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين.
الرابع: إن يرد الزوجان إصلاحا يوفق الله بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح، ولا شك أن اللفظ محتمل لكل هذه الوجوه.
المسألة الثانية: أصل التوفيق الموافقة، وهي المساواة في أمر من الأمور، فالتوفيق اللطف الذي يتفق عنده فعل الطاعة، والآية دالة على أنه لا يتم شيء من الأغراض والمقاصد إلا بتوفيق الله تعالى، والمعنى أنه إن كانت نية الحكمين إصلاح ذات البين يوفق الله بين الزوجين.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} والمراد منه الوعيد للزوجين وللحكمين في سلوك ما يخالف طريق الحق.
النوع التاسع: من التكاليف المذكورة في هذه السورة قوله تعالى:


{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)}
واعلم أنه تعالى لما أرشد كل واحد من الزوجين إلى المعاملة الحسنة مع الآخر وإلى إزالة الخصومة والخشونة، أرشد في هذه الآية إلى سائر الأخلاق الحسنة وذكر منها عشرة أنواع.
النوع الأول: قوله: {واعبدوا الله} قال ابن عباس: المعنى وحدوه، واعلم أن العبادة عبارة عن كل فعل وترك يؤتى به لمجرد أمر الله تعالى بذلك، وهذا يدخل فيه جميع أعمال القلوب وجميع أعمال الجوارح، فلا معنى لتخصيص ذلك بالتوحيد، وتحقيق الكلام في العبادة قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21].
النوع الثاني: قوله: {وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} وذلك لأنه تعالى لما أمر بالعبادة بقوله: {واعبدوا الله} أمر بالاخلاص في العبادة بقوله: {وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} لأن من عبد مع الله غيره كان مشركاً ولا يكون مخلصاً، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5].
النوع الثالث: قوله: {وبالوالدين إحسانا} واتفقوا على أن هاهنا محذوفا، والتقدير: وأحسنوا بالوالدين إحسانا كقوله: {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] أي فاضربوها، ويقال: أحسنت بفلان، وإلى فلان.
قال كثير:
أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة *** لدنيا ولا مقلية إن تقلت
واعلم أنه تعالى قرن إلزام بر الوالدين بعبادته وتوحيده في مواضع: أحدها: في هذه الآية.
وثانيها: قوله: {وقضى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إلاّ إياه وبالوالدين إحسانا} [الإسراء: 23].
وثالثها: قوله: {أَنِ اشكر لِى ولوالديك إِلَىَّ المصير} [لقمان: 14] وكفى بهذا دلالة على تعظيم حقهما ووجوب برهما والاحسان اليهما. ومما يدل على وجوب البر اليهما قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} [الإسراء: 23] وقال: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه حسنًا} [العنكبوت: 8] وقال في الوالدين الكافرين: {وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وصاحبهما فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن استأذنه في الجهاد، فقال عليه السلام: «هل لك أحد باليمن؟» فقال: أبواي فقال: «أبواك أذنا لك؟» فقال: لا فقال: «فارجع واستاذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما».
واعلم أن الاحسان إلى الوالدين هو أن يقوم بخدمتهما، وألا يرفع صوته عليهما، ولا يخشن في الكلام معهما، ويسعى في تحصيل مطالبهما والانفاق عليهما بقدر القدرة من البر، وأن لا يشهر عليهما سلاحا، ولا يقتلهما، قال أبو بكر الرازي: إلا أن يضطر إلى ذلك بأن يخاف أن يقتله أن ترك قتله، فحينئذ يجوز له قتله؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك كان قد قتل نفسه بتمكين غيره منه، وذلك منهي عنه، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا.
النوع الرابع: قوله تعالى: {وَبِذِى القربى} وهو أمر بصلة الرحم كما ذكر في أول السورة بقوله: {والأرحام} [النساء: 1].
واعلم أن الوالدين من الأقارب أيضا، إلا أن قرابة الولاد لما كانت مخصوصة بكونها أقرب القرابات وكانت مخصوصة بخواص لا تحصل في غيرها، لا جرم ميزها الله تعالى في الذكر عن سائر الأنواع، فذكر في هذه الآية قرابة الولاد، ثم أتبعها بقرابة الرحم.
النوع الخامس: قوله: {واليتامى} واعلم أن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز: أحدهما: الصغر، والثاني: عدم المنفق، ولا شك أن من هذا حاله كان في غاية العجز واستحقاق الرحمة.
قال ابن عباس: يرفق بهم ويربيهم ويمسح رأسهم، وإن كان وصيا لهم فليبالغ في حفظ أموالهم.
النوع السادس: قوله: {والمساكين} واعلم أنه وان كان عديم المال إلا أنه لكبره يمكنه أن يعرض حال نفسه على الغير، فيجلب به نفعا أو يدفع به ضررا، وأما اليتيم فلا قدرة له عليه، فلهذا المعنى قدم الله اليتيم في الذكر على المسكين، والاحسان إلى المسكين اما بالاجمال اليه، أو بالرد الجميل. كما قال تعالى: {وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 9].
النوع السابع: قوله: {والجار ذِى القربى} قيل: هو الذي قرب جواره، والجار الجنب هو الذي بعد جواره.
قال عليه الصلاة والسلام: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ألا وإن الجوار أربعون داراً».
وكان الزهري يقول: أربعون يمنة، وأربعون يسرة، وأربعون أماما وأربعون خلفا.
وعن أبي هريرة قيل: يا رسول الله ان فلانة تصوم النهار وتصلي الليل وفي لسانها شيء يؤذي جيرانها، أي هي سليطة، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا خير فيها هي في النار».
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لا يؤدي حق الجار إلا من رحم الله وقليل ما هم أتدرون ما حق الجار ان افتقر أغنيته وان استقرض أقرضته وان أصابه خير هنأته وان أصابه شر عزيته وان مرض عدته وان مات شيعت جنازته».
وقال آخرون: عني بالجار ذي القربى: القريب النسيب، وبالجار الجنب: الجار الأجنبي، وقرئ (والجار ذا القربى) نصبا على الاختصاص، كما قرئ {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] تنبيها على عظم حقه، لأنه اجتمع فيه موجبان. الجوار والقرابة.
النوع الثامن: قوله: {والجار الجنب} وقد ذكرنا تفسيره.
قال الواحدي: الجنب نعت على وزن فعل، وأصله من الجنابة ضد القرابة وهو البعيد. يقال: رجل جنب إذا كان غريبا متباعداً عن أهله، ورجل أجنبي وهو البعيد منك في القرابة.
وقال تعالى: {واجنبنى وَبَنِىَّ} [إبراهيم: 35] أي بعدني، والجانبان الناحيتان لبعد كل واحد منهما عن الآخر، ومنه الجنابة من الجماع لتباعده عن الطهارة وعن حضور المساجد للصلاة ما لم يغتسل، ومنه أيضا الجنبان لبعد كل واحد منهما عن الآخر.
وروى المفضل عن عاصم: {والجار الجنب} بفتح الجيم وسكون النون وهو يحتمل معنيين: أحدهما: أنه يريد بالجنب الناحية، ويكون التقدير: والجار ذي الجنب فحذف المضاف، لأن المعنى مفهوم والآخر: أن يكون وصفا على سبيل المبالغة، كما يقال: فلان كرم وجود.
النوع التاسع: قوله: {والصاحب بالجنب} وهو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا في سفر، وإما جارا ملاصقا، وإما شريكا في تعلم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الاحسان. قيل: الصاحب الجنب: المرأة فانها تكون معك وتضجع إلى جنبك.
النوع العاشر: قوله: {وابن السبيل} وهو المسافر الذي انقطع عن بلده، وقيل: الضيف.
النوع الحادي عشر: قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم}.
واعلم أن الاحسان إلى المماليك طاعة عظيمة، روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع شيئا من الخدم فلم توافق شيمته شيمته فليبع وليشتر حتى توافق شيمته شيمته فان للناس شيما ولا تعذبوا عباد الله».
وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان آخر كلامه: «الصلاة وما ملكت أيمانكم».
وروي أنه كان رجل بالمدينة يضرب عبده، فيقول العبد أعوذ بالله ويستمعه الرسول عليه السلام، والسيد كان يزيده ضربا، فطلع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: أعوذ برسول الله فتركه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كان أحق أن يجار عائذه» قال يا رسول الله فانه حر لوجه الله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «والذي نفس محمد بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار».
واعلم أن الاحسان اليهم من وجوه:
أحدها: أن لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به.
وثانيها: أن لا يؤذيهم بالكلام الخشن بل يعاشرهم معاشرة حسنة.
وثالثها: أن يعطيهم من الطعام والكسوة ما يحتاجون اليه. وكانوا في الجاهلية يسيئون إلى المملوك فيكلفون الاماء البغاء، وهو الكسب بفروجهن وبضوعهن.
وقال بعضهم: كل حيوان فهو مملوك، والاحسان إلى الكل بما يليق به طاعة عظيمة.
واعلم أن ذكر اليمين تأكيد وهو كما يقال: مشت رجلك، وأخذت يدك، قال عليه الصلاة والسلام: «على اليد ما أخذت».
وقال تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعاما} [يس: 71] ولما ذكر تعالى هذه الأصناف قال: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} والمختال ذو الخيلاء والكبر.
قال ابن عباس: يريد بالمختال العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق أحد.
قال الزجاج: وإنما ذكر الاختيال هاهنا، وذكرنا اشتقاق هذه اللفظة عند قوله: {والخيل المسومة} [آل عمران: 14] ومعنى الفخر التطاول، والفخور الذي يعدد مناقبه كبرا وتطاولا.
قال ابن عباس: هو الذي يفخر على عباد الله بما أعطاه الله من أنواع نعمه، وإنما خص الله تعالى هذين الوصفين بالذم في هذا الموضع، لأن المختال هو المتكبر، وكل من كان متكبرا فانه قلما يقوم برعاية الحقوق، ثم أضاف اليه ذم الفخور لئلا يقدم على رعاية هذه الحقوق لأجل الرياء والسمعة، بل لمحض أمر الله تعالى.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14